: الجاحظ واثار الفكر الاعتزالي مجمل القول؛ أن أثر المعتزلة الجلي في فكر الجاحظ، نجده في المنحى الكلامي والمنحى الطبيعي، وفي منهج البحث.
ففي المنحى الكلامي لم يشذ عن المبادئ الخمسة الأساسية التي وضعها المعتزلة، والجاحظ يذكرالمعتزلة باسم "أصحابنا " فهو لا يصرح بانتمائه إليهم فحسب، بل إنه يقف موقفا عدائيا من سائر الفرق ولا يستثني منها إلا المعتزلة . ورغم هذا فإنه كان ينتقي من أفكارهم ما وجد منها مقنعا، ويخالف ما عداها بجرأة وسخرية منقطعتي النظير، وتفرد بآراء له خاصة، اختلف بهاعن فرقته، سيأتي ذكرها في الفصل القادم.أما في المنحى الطبيعي، فقد كان الجاحظ كما سيأتي ذكره ٥ يبحث في الطبيعة محاولا الكشف عن القوانين المبثوثة فيها، وذلك على غرار رجال المعتزلة أمثال "ثمامة" و"معمر" و"النظام"، والذين حاولوا قبله عدة محاولات في دراسة عالم الطبيعة أو العالم المادي بوجه عام.أما منهج البحث عند الجاحظ، فهو منهج المعتزلة، حيث استمد منهم منهجه العقلي، ونزعته العقلانية التي صاحبته مفسرا كما صاحبته محدثا، وصاحبته متكلما وفيلسوفا طبيعيا بل صاحبته أديبا بلاغيا؛ ، وذلك استمرارا منه لعقلانية "العلاف" و"النظام"، واقتداء منه بواقعية "بشر" و"ثمامة
الشك عند الجاحظ نوعان:*شك مذموم يستولي على النفوس حتى يصير عادة من عاداتها بل إنه شك يصبح بمثابة الداء الذي يجب العلاج منه .ويسمي الجاحظ هذا الموع من الناس "الشكاكين "*شك واجب :وهو عنده الدرجة الأولى من درجات العلم وهو الشك المنهجي الذي يؤدي إلى معرفة اليقين وأسسه من بعده الغزالي ثم في العصر الحديث ديكارت .يقول
الجاحظ عن هذا النوع من الشك : "وأول العلم بكل غائبالظنون.والظنزن إنما تقع في القلوب بالدلائل .فكلما زاد الدليل قوي الظن"
علاقة الجاحظ بأسانيد الأخباركان الجاحظ قد رفض من جهة الإسناد "أن يكون في الحديث حاطب ليل، فما كان من، الأحاديث مرضي الإسناد صحيح المخرج قبِله، وما كان مسخوط الإسناد فاسد المخرج نبذه" خاصة أن عصر الجاحظ، عصر ازدهرت فيه حرية الرأي، وتمازجت فيه الثقافات، لاسيما فيالعراق، فكثر المغرضون في الدين حتى كان من يقول عن الحديث وروايته: "نخرج الحديث شبرا فيرجع ذراعا يعني من العراق" لذلك لم يكن الجاحظ يأخذ الحديث إلا عمن يثق في اجتهادهم وفحصهم، أما المنكرون للمجاز، المهملون للمناسبة والظروف التي قيلت فيها الأحاديث، والمكثرون من الحديث على علاته فيسميهم الجاحظ: "الحشوية" ٨ أو "النابتة" أو "العامة"، الذين يعيب عليهم تفضيلهم السماع والأخذ عن الرواة، على الإجتهاد والفحص، فيقول: "العجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار" ١، ويصفهم في موضع آخر بالتقليد، ولذا فهم كالعوام لأن "العوام هم الذين يقلدون ولا يحصلون ولا يتخيرون، والتقليد مرغوب عنه في حجة العقل منهي عنه في القرآن".فالجاحظ لم يكن يأخذ من الرواة دون تمحيص فهو يشك في صحة الأخبار قبل إثباتها، ويشك في صحة تفسيرها وتأويلها بعد إثباتها، ولذلك يختم رأيه السابق بقوله: "هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله (ص)أم لم يقله، لأن مثل هذه الأخبار يحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنَّا بفضل الثقة، وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشبهه " إن "هذا التوقف ثم التثبت" ٦ كما يسميه الجاحظ؛ إنما اكتسبه بفضل عاملين:أولا: تعدد المناهل التي نهل منها، مما سمح له بانتقاء الأصح والأرجح، ويدلنا على تعدد مناهله، ما أخبر هو عن نفسه أنه أدرك رواة المسجديين والمربديين. وجلس إلى مشاهير أعلام اللغة من رواة البغداديين. ورأى بنفسه أن غاية النحويين هو طلب الإعراب، وغاية رواة الأشعار هو طلب الغريب، وغاية رواة الأخبار هو طلب كل شعر فيه الشاهد والمثل.ثانيا: أما العامل الثاني الذي أدى بالجاحظ إلى التثبت في الأخباروالروايات، والتوقف أو الشك في التأويلات؛ هو تأثره بالشك المنهجي الإعتزالي، والبلاغة المعتزلية. حيث يقول عن المتكلمين وعن المعتزلة منهم بخاصة، في مسألة التأويل والمجاز: "لولا مكان المتكلمين لهلكتالعوام، واختطفت واسترقت، ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون"بعض أرائه في المعتزلة و تأثره بأعلامها "هم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا: العرض والجوهر، وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية، وأشباه ذلك".
بعض الشواهد القولية المتعلقة بالجاحظ : نزعته العقلية ومنهجه العلمي
*الجرأة لم يكن رجال الاعتزال ينتقدون الفكر الوافد والفرق الإسلامية الأخرى فحسب بل إن المتمعن في تاريخ الاعتزال يدرك أن المناظرات الخارجية التي كانت تتم بين المعتزلة وخصومهم فكان اللاحق ينتقد السابق والتلميذ يعارض أستاذه والتابع يخرج عن فلك المتبوع .إن المعتزلي يقف ضد كل ما يراه مجانبا للصواب مهما كلفه موقفه لا يراعي في ذلك صحبة ولا قرابة ولا انتماء فهو يرتفع عن مستوى الجماعة والحزبية الضيقة ويطمح بفكره إلى أفق أرحب وأوسع إلى أفاق الإنسانية ملتزما الموضوعية لا ينشد إلا الحق والحقيقة. * النزعة الشكية هي من سمات النزعة العقلية عند الجاحظ -خاصة والمعتزلة عامة – عدا الجرأة –التي نتجت من تقديرهم الظاهر لسلطان العقل . فكثيرا ما كانوا يقفون موقف المتشكك أو المنكر للأحاديث التي يعارض ظاهرها الآيات لأنهم يحكمون العقل في الحديث ويستخدمون "منهج الدراية دون الرواية في الأحاديث"* الوسطية : وهي أيضا من سمات النزعة العقلية عند الجاحظ ونعني بها الاعتدال وعدم التعصب بحيث لا يكون المفكر ممن يميل –على حد تعبير الجاحظ – في شق عن شق ويتعصب لبعض على بعض .وهذه الوسطية التي تميز بها فكر الجاحظ ومن ورائه المعتزلة كانت نتيجة ظهور أفكار متطرفة كان أصحابها فيها إما مفرطين أو مفرﱢطين .لقد كان الجاحظ يصنف مؤسسي الإعتزال وهما "واصل بن عطاء" و"عمرو بن عبيد"ضمن زمرة صحيحي العقل ٣، لأن واصلا كان "أوسع عقلا وأغزر علما وكان له الفضل الأكبر في تأسيس الإعتزال على أسس علمية (...) وكان أقدر على الجدل والمناظرة " ٤، وهو "أول من ذهب إلى أن الحقيقة تعرف بحجة عقل"ومجمل القول؛ أن في الفكر الإسلامي تيارا عقلانيا اتضحت معالمه كما رأينا :-في النزعة النقدية التي تجلت بوضوح في ما كان يدور بين مختلف الفرق أو بين علماء الكلام من مناظرات هي في جوهرها محاكمات عقلية أو احتكام إلى العقل.-وفي الجرأة في إعلان الرأي المخالف للمألوف، حبا في الإبداع والتجديد ، ونبذا للإتباع والتقليد. وفي النزعة الشكية التي نتجت من جراء تقدير مفكرينا لسلطان العقل.- وفي الميل إلى الإعتدال الذي يقتضيه العقل بين رذيلتين: الإفراط والتفريط وفي الروح الموضوعية التي تستلزم الأمانة العلمية، وتستلزم اللاذاتية أوعدم الإنفعالية ونبذ التعصب، وبرودة العاطفة، حتى كان فكر المعتزلة في مغلبه لا يحرك فينا الشعور بقدر ما يخاطب منا العقول.وفي النزعة الإستقرائية أو نزعة التجريب، لإدراك القوانين العامة الشاملة، وهذه الشمولية والكلية هي إحدى سمات العقلانية. نجد إذن في الفكر الإسلامي تيارا عقلانيا أصيلا "قبل أن تعرف العربية حركة الترجمة عن اليونان" ١، وساد هذا التيار قبل أن يجرفه تيار مضاد، بموت المعتزلة الذي كان مؤشرا لاحتضار الحضارة الإسلامية