المحور الأول: في التفكير العلمي
كان لانفتاح العرب على الثقافات المجاورة و توافد معارف جديدة أن تنشّط العقل و ازدهرت حركة الترجمة من الفكر اليوناني علوما و فلسفلة فتراكمت المعارف مما احتاج معه العالم العربي المسلم إلى تدخل العقل لمزيد تفعيل الوافد العلمي و الفلسفي.
و لم يقتصر عمل العالم العربي على الاقتباس بل كانت الإضافة مرحلة هامة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية عملا بقول الجاحظ: "ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا."
فلم تكن غاية العلماء العرب القدامى نقل المعارف السابقة للأمم الأخرى و تلقينها بل كانت غايتهم إيقاظ العقول و تعليمها منهجا في التفكير يهديها. ففي تراثنا الأدبي و الفكري و الفلسفي و حتى الفقهي منزع عقلي نشأ في صلب العلوم الإسلامية و على هامشها في الآن نفسه و قد جلاه علم الكلام.
1. دور العقل في إنتاج القيم المعرفيّة:
إنّ إجلال العقل منهجا في إنتاج العلوم عند المسلمين أمر لا يختلف فيه اثنان و لقد أدرك العالم العربي
و المسلم عموما أن الحواس لا تقدّم إلاّ معرفة حسيّة ظنيّة و عليه فلا بدّ من تدخّل العقل ليحسم الأمر فقال الجاحظ: "لا تذهب إلى ما تريك العين و اذهب إلى ما يريك العقل و العقل هو الحجّة". فكان آلة التّمييز بين الخطأ و الصّواب و سبيلا لاستنباط المعرف عند العلماء و الفلاسفة فالفرابي و ابن سينا و الكندي و الغزالي و التوحيدي و ابن خلدون و غيرهم كثير لم يجدوا من بد إلى المعرفة العقليّة إلا العقل سبيلا. فكان تحمّسهم للمنطق و الشّك
و التّجريب و إعمال القياس و البحث في أصول الأسباب والمعلومات مما ألهمهم إلى ابتكار نظريّات جديدة
و تطوير العلوم السّابقة.
و لا ننسى ما تركه ابن خلدون في علم العمران البشري و لا إسهامات ابن الجزار في تطوير الأدوية و لا تلك الاختراعات العجيبة للإبشيهي في علم الحيل و علم الميكانيكا.
2. دور العقل في صنع القيم السلوكية:
لم يهمل العالم العربي قديما مجال السّلوك و الأخلاق في بحثه لأنّ ذلك مقياس التّحرّر فراح يدعوا إلى اعتماد العقل ملكة في ضبط السّلوك إيمانا منه بالتّطابق بين العمل بالعقل و بين نتائج العقل فكان يجلّ السّلوك و الأخلاق لأنّها الضّامن الوحيد إلى نجاح مشروعه الفكريّ و الحضاريّ و الإنسانيّ.
======
المحور الثّاني: في الفنّ و الأدب
أدرك العرب و المسلمون عموما ما للفنون من دور فعال في التّحضّر فاهتمّوا بها و نزّلوها المنزلة السّامية لما لها من أثر على النّفوس و الأخلاق في سبيل الارتقاء بالإنسان من المنزلة الدّونيّة إلى أخرى فنيّة جماليّة.
1. بلاغة الفنّ القوليّ:
الشّعر ديوان العرب و ليه أودع المبدع العربيّ قديما هذا الفنّ القولي أحاسيسه و أفكاره و مقاصده فكان الشّعر سبيلا إلى عطف القلوب على القيم الحسنة و تنفيرا من القيم الرذيلة و كذلك الشّأن في النّثر فالنّاظر إلى كليلة و دمنة مثلا يدرك ما لهذا الأثر من قيمة في توجيه السّلوك ة حمل الإنسان على إعمال العقل آلة في التّمييز بين الصّالح و الطّالح.
2. بلاغة الفنّ السّمعيّ:
يحتاج الإنسان في حياته إلى الموسيقى لدفع الملل و السّأم لأنّ النّفوس تصدأ كما يصدأ الحديد لذلك اهتمّ الفلاسفة و العلماء بالموسيقى لما وجدوا فيها من غايات نبيلة و تهذيب للأذواق و التّرويح عن النّفوس. و كان الفاربي علامة مميزة في هذا الإطار و هو القائل "من لم يكن موسيقيا لا يدخلنّ علينا" و حذوه سار ابن سينا الذي كان يتخذ من الموسيقى منهجا في مداواة مرضاه و أمّا الغزالي و هو إمام فقيه و فيلسوف فقال "من لم يهزّه العود و أوتاره و الربيع و أزهاره فهو فاسد المزاج يحتاج إلى علاج".
3. بلاغة الفنّ البصريّ:
تزخر العمارة العربيّة الإسلاميّة بفنون جميلة راقية تقف شاهدا على عبقريّة الفنان العربي المسلم و على رفعة حسّه الجماليّ و عمق خياله و ثراء إبداعه.
و مما لا شكّ فيه ان للدّين أثرا في ذلك فلقد كان الفنان العربي المسلم محبا للفضيلة شغوفا بالجمال يتتبّعه في الوجود مقدّسا للحقّ بما انعكس على أعماله في الرقش و الخطّ و عمارة المساجد و القصور و المنازل و في المنمنمات.
لقد أودع فنه سر خلوده إلى اليوم و إنّنا لنشعر اليوم و نحن نقف أمام هذه الأعمال في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية إلا بالاعتزاز و الفخر فنكبّر فيهم إحساسهم المرهف و دقّة أعمالهم و ما توفرت عليه من مرجعيّات جماليّة ذات خصوصيّة بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة.
لقد كانت العمارة العربية الإسلاميّة و فنّ الخطّ وجها آخر من قوّة تلك الحضارة و علامة مميزة لها و مثال على حب الجمال و السّعي الدّؤوب إليه.
و لم يكن المهندس العربي قديما ينشأ إبداعه من فراغ و هو الذي تأثّر بتعاليم الدّين الجديد و بالفنون السّابقة له في الحضارات الأخرى اليونانيّة و الرّومانيّة و الفارسيّة و غيرها و لكنّه استطاع أن يهب أعماله خصوصيّة نادرة تقف دليلا على قوّة الإبداع، فالمتأمّل مثلا في عمارة المنزل العربي قديما و في هندسة المدينة العربية العتيقة أسوارا و أزقّة و أسواقا و منازل و قصورا يلحظ أنّها بسيطة من الخارج و حسبه أن يتوغّل في الدّاخل فيأخذه الفنان إلى لوحات جماليّة فاتنة تسبي العقول.
إنّ الظّاهر ليس محددّا لقيمة الأشياء و إنّما الجوهر هو المرجع في القيم و الأخلاق و تلك الفكرة منبثقة عن الدّين ترسخ قيمه فتعيد إنتاجها فنيّا.
و صفوة العقول إن الفنان العربي المسلم في القديم كان محبا للجمال حساسا متعطّشا للقيم الأصيلة فأودع فنه سر الخلود و رؤيته للجمال و الوجود. فكان بحق علامة مميّزة للحضارة العربية الإسلاميّة التي اهتمّت بالفنون و أجلّت الجمال خلافا لما يروّج له أعداؤها اليوم من أنّ الإسلام كان مانعا من الموانع دون إدراك الجمال و الوصول بالفنّ إلى ذرى الخلق و الإبداع
=====
حوار الحضارات
حوار الحضارات هو كل تفاعل بين حضارتين أو أكثر يتمّ فيها تبادل الخبرات في مختلف المجالات من أجل تمتين العلاقات بين الشّعوب سياسيّا و ثقافيّا و اقتصاديا. و اليوم أصبح التلاقح الثّقافي و الحضاريّ ظاهرة موضوعيّة مثل الظّواهر الطّبيعيّة من العبث مقاومتها إنّه قانون عام لا يصدّ و لا يردّ.
1. دواعي حوار الحضارات:
إنّ دخول الإنسانيّة مرحلة تاريخيّة جدية تسمّى بالكونيّة الشّاملة و العولمة جعلت كل الأفراد في العالم يشعر بالحاجة إلى ثقافة الآخر المختلف عنه و ضرورة التّعرّف إليه فالإنسان لو لجأ إلى قدر قوّته لما أمكنه العيش لذلك تشعر كل شعوب العالم بعدم قدرتها على الاكتفاء بذاتها.
و قد تظهر هذه الدّواعي في مجالات عدّة منها المجال الثّقافيّ. فقد تضاعفت الحاجة اليوم لدى الشّعوب إلى التّبادل الثّقافيّ الحرّ استئناسا بالآخر و التّعرّف إلى عاداته و خبراته و الاستفادة منها في تطوير مرجعيّاته الحضاريّة وفق آليّات محدّدة.
2. شروط الحوار الحضاري:
الاعتراف بالآخر: أن يؤمن كل طرف بحقّ الاختلاف في كنف الحريّة و المسؤوليّة مما يساهم أكثر في الابتكار و الإبداع، يقول توفيق بن عامر: "لا مجال للحوار بدون حريّة و تضاف إلى هذه القاعدة قاعدة مبدئيّة أخرى هي ضرورة الاعتراف بالآخر و بهويّته و معتقداته و حضارته و إحلال مبدأ التّسامح محل النزاعات التّعصّب و إقصاء فكرة التّفاضل بين الثّقافات و استبدالها بفكرة التّكامل بين الثّقافات".
تجنّب مبدأ المفاضلة: فعلى كل طرف أن يعامل الطّرف المقابل له على مبدأ المساواة في القيمة والمكانة تأثّرا و تأثيرا.
التّبادل: أن يؤمن كل طرف بجديّة الشّراكة فينهض الحوار على تبادل مستمرّ للخبرات و القدرات و المعارف بشكل يسرّق التّقّدّم و يحقّق التّطوّر الحضاري المطرد. فعلى كل طرف أي ينظر إلى الآخر على أنّه كائن ثقافيّ و حضاريّ كفء و قادر على الإضافة و على أن يعطي بقدر ما هو مستعدّ إلى أن يأخذ.
3. وسائل تحقيق حوار الحضارات:
التّرجمة: هي من أقدم وسائل التّعامل بين الثّقافات و الشّعوب و مهمتها نقل الخبرات و القدرات و المعارف و تعميمها بين الأمم. يقول منجي الشّملي: "بها ينشأ التّفاهم بين الشّعوب و التّعاضد الثّقافي".
الإعلام: في الحضارات و الثّقافات القديمة كان التلاقح بطيئا لبطء الاتصالات و أما في الأزمنة الحديثة فقد تسارع التّاريخ فتسارعت وتائر التّلاقح بفضل تقنيّات الاتّصال و البثّ و التّبادل و السّياحة و الهجرة و اختلاط السّكّان و لقد أسهمت وسائل الإعلام في سرعة تنقّل خبرات الأمم، يقول مصطفى المصمودي: "يعتبر الكثير من الملاحظين أنّ تكاتف شبكات الإرسال و اتّساع رقعتها سيفتح عهدا جديدا تتأثّر به الأرضيّة الثّقافيّة في مختلف المجتمعات".
و من وسائل الحوار الحضاري نذكر الانترنت و التّبادل الثّقافي في شكل رحلات علميّة و بعثات ثقافيّة.
4. مقاصد حوار الحضارات:
مقاصد إنسانيّة يمكن حصرها في الآتي:
محاربة النّزاعات الأنانيّة المدمّرة
إزالة مظاهر الحقد و البغضاء و الحروب بين شعوب العالم
نشر ثقافة الاعتدال و التّسامح و نبذ مظاهر التّطرّف و التّشدّد
نشر قيم الحرية و العدالة و السّلم
التّقريب بين الثّقافات المختلفة دون التّفريط في الخصوصيّة الثّقافيّة الضامنة للهوية
كسر الحدود بين الشّعوب و خاصة الجمركيّة لتحقيق حريّة التّبادل التّجاري في مشروع العولمة.
5. عراقيل الحوار الحضاري:
- النزوع إلى الهيمنة بمختلفة تجلّياتها الاقتصادية و السّياسيّة و الثّقافية فتلاقي الاقتصاديّات في اقتصاد عالمي متدامج يجري حتى الآن على نحو متوحّش استفاد منه البعض و سقط البعض ضحايا له.
- نشر ثقافة عدائيّة عبر وسائل الإعلام فلابدّ اليوم أن نضمن درجة معقولة من التّنوّع الثّقافي في العالم فلابدّ من إعادة هيكلة المؤسّسات التّعليميّة في العلم لمجانسة برامجها في ما يخصّ القيم الكونيّة مثل الديمقراطية و حقوق الإنسان باعتبارها قيما ثقافيّة عابرة للقوميّات يتعرف فيها العقل الإنساني على نفسه لتخريج أجيال إنسانية ذات وعي متجانس لا ينتهك حقوق الإنسان و لا يسكت على انتهاكها و متشبّع بقيم التّضامن البشري و باحترام البيئة باعتبار الأرض وطن للإنسان الحقيقيّ المهدد بكارثة ايكولوجيّة مميتة.
- نزاعات التّعصّب العرقي و الدّيني.
3. سمة العالم العربيّ:
• الموضوعيّة: لم يكن العالم العربي القديم ذاتيّا في أحكامه دغمائيّا في أفكاره انطباعيّا في أحكامه بل كانت الموضوعيّة سمة مميّزة له في البحث لذلك لم يكن يسلّك أفكاره على الآخر و لم يرفض آراءه على المتقبّل و إنّما كان الحجاج و السّجال و الجدل هدفا مميّزا لأعماله
• الانفتاح: التّحرر الفكر علامة معلى المشروع الإنسانيّ الذي كان يرنو إليه المبدعون العرب القدامى. فهم مؤمنون بأنّ المعرفة ليست حكرا على أمّة دون أخرى و إنّما هي مشروع مشترك و الحقيقة أخطاء نصلحها باستمرار. فكان مؤمنا بحقّ الآخر في الاختلاف محترما لثقافته رافضا التّعصّب داعيا إلى التّكامل بين السّابق و اللاحق فانعكس هذا كلّه على المشهد المعرفيّ العربيّ عصرئذ لذلك تحضر في أعمالهم آراء الفلاسفة القدامى للإغريق و تزخر مؤلّفاتهم و مصنفاتهم العلميّة بآراء أهل الاختصاص من فلاسفة اليونان لأنّ الحقّ واحد و إنّما الإتلاف فيه من جهة السّلوك إليه على حد عبارة ابن الهيثم عالم البصريّات المشهور.
• التّسامح: إنّها ميزة الباحث عموما و خصلة فريدة ميّزت العلماء القدامى و ارتقت بأعمالهم إلى مرتبة الكونيّة بما في وفّره العصر من تلاقح حضاري و تثاقف. و إن المتأمل في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قديما يدرك أنّها لم تكن حضارة منغلقة على نفسها رافضة التّواصل مع الآخر فلو لجأنا إلى قدر قوّتنا في لما أمكننا التّواصل و الإنسان مدي بطبعه يحتاج إلى غيره لتكتمل آراؤه فتتوضّح له مجالات من البحث جديد كانت من قبل مجهولة لديه.
4. موقع العالم العربيّ القديم من الحضارة الإنسانيّة قديما و حديثا:
لا تزال أعمال ابن الجزّار و ابن النّفيس و ابن البيطار في الطبّ و الخوارزمي في الرّياضيّات و ابن الهيثم في البصريّات و ابن رشد في شروحه لفلسفة أرسطو حاضرة اليوم في أكبر جامعات العالم و لا تزال مؤلّفاتهم يله جبها أصحاب الاختصاص.
لقد ساهموا حقّا في تفعيل العلوم لما ابتكروه من نظريّات جديدة في مختلف المجالات: الطبّ و الفيزياء و علم الحيل (كيمياء)... و إن النهضة الغربيّة لم تكن لتكون لولا أعمال العالم العربيّ القديم و ما قدمه للإنسانيّة من خدمات.
فمن التعسّف إذن أن نقصي اليوم دورهم و نتغافل عن أفكارهم و إنّما هي لنا اليوم معين في سبيل إرساء علوم عربيّة جديدة تعد للحضارة العربيّة الإسلامية بريقها حتّى نفتكّ لنا مكانة تحت الشمس في عصر لا يعترف إلاّ بما تنجزه من علوم و إلاّ سنبقى على هامش التّاريخ لا نقوى أمام عواصف التّغيير.
=====
تلخيص محور: " في التفكير العلمي "
تاريخ المعرفة الإنسانيّة هو تاريخ تراكميّ لا معنى فيه للقطائع و الفجوات و الانكسارات، فكلّ حضارة تستوعب مُنجزات الحضارات الماضية و تُضيف لبنات جديدة لصرح الإنسانيّة. و هو ما نهضت به الحضارة العربيّة الإسلاميّة في المجال العلميّ سواء أكان ذلك في مستوى آليّات نقل المعرفة أم في مستوى آليّات إنتاجها.
فما هي الإضافات التّي قدّمتها الحضارة العربيّة الإسلاميّة إلى المعرفة الإنسانيّة فيما يتّصل بآليّات نقل المعرفة؟ و ما هي الإضافات التّي تتّصل بآليّات إنتاجها؟
i- آليّات نقل المعرفة:
يُمكن تقسيم آليّات نقل المعرفة إلى قسمين:
1- نقل المعرفة داخل اللّسان الواحد ( داخل اللّغة الواحدة ): قام العرب بغربلة معارفهم عن طريق توسّل علم الجرح و التعديل، أي نقد السّند و المتن ( الجاحظ مثلا ). و كما هو معلوم فإنّ هذه العمليّة ضرورة أملتها تلك الثقافة التّي كانت تتأرجح بين المُشافهة و التدوين. و قد ضمنت هذه الغربلة للحضارات الأخرى معارف صحيحة باعتبار " المغلوب مولع دائما بالاقتداء بالغالب " حسب تعبير ابن خلدون.
2- نقل المعرفة من لسان إلى لسان آخر ( من لغة إلى لغة أخرى ): تُعتبر الترجمة من أهمّ الوسائل المعرفيّة التّي اعتنى بها العرب من أجل إغناء حضارتهم بمُنجزات الأمم السّابقة. و قد ضمنت هذه الآليّة للإنسانيّة المُحافظة على ذلك التّراث الإنساني الضّخم الذّي سبق نهضة الحضارة العربيّة الإسلاميّة. كما أنّ العرب لم يكتفوا بالنّقل فقط، بل كانت التّرجمة مُنطلقا لمزيد البحث و التمحيص و تأسيس معارف جديدة أضافت الكثير إلى الإنسانيّة. يقول الجاحظ: "ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا."
ii- آليّات إنتاج المعرفة:
يُمكن تقسيم هذا المحور إلى أربعة أقسام
1- التساؤل حول وسائل المعرفة:
إنّ هذا التساؤل المعرفيّ يسبق أيّ فعل لإنتاج المعرفة و تأسيسها، و هو تساؤل خاضت فيه كلّ الحضارات السّابقة للحضارة العربيّة الإسلاميّة. و قد أجمل الفلاسفة العرب على حصر وسائل المعرفة في ثلاثة أقانيم و هي الحواس و العقل و الحدس. فالتوحيدي اعتبر أنّ الحواس قاصرة عن الوصول إلى المعرفة المُطلقة ( نسبيّة المعرفة الحسيّة ) في حين أنّ العقل " هو الملك المفزوع إليه و الحَكَمُ المرجوع إلى ما لديه ". و الغزالي بعد أن مارس منهج الشكّ اعتبر أنّ " المعرفة نُور قذفه الله " في صدره، أي أنّها تقترب من معنى الوحي و الإلهام و الحدس.
و عموما يُمكن القول، إنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة قد رفعت من شأن العقل باعتباره وسيلة معرفيّة تستطيع عقلنة الوجودات و كشف أسرار الكون. فالجاحظ يقول: "لا تذهب إلى ما تُريك العين و اذهب إلى ما يُريك العقل... و العقل هو الحجّة"
2- ضبط شروط الباحث:
ذلك أنّ الباحث يجب أن يتّصف بصفات خاصّة كي يستطيع أن يتبحّر في بحر العلوم و أن يُقدّم معارف صحيحة و سليمة. فابن الهيثم اشترط على الباحث الانصراف للبحث ( التفرّغ له ) و الإخلاص له و مُراجعته باستمرار ( عمليّة التحيين الدّائم ). و ابن خلدون اشترط المعرفة الموسوعيّة و تنوّع المصادر و حُسن النّظر و التثبّت و الموضوعيّة.
3- ضبط منهج البحث:
إنّ قضيّة المنهج من أوكد المسائل التّي يجب على الباحث أن يعتني بها من أجل تأسيس معرفة سليمة و صحيحة، و قد كان العرب على وعي بهذه المسألة لذلك اعتنوا كثيرا بضبط منهج البحث. فالجاحظ قدّم منهج الشكّ الذّي ينقسم إلى أربعة مراحل و هي التعرّف (تحديد المواضيع التّي يُمكن أن نشكّ فيها، و المواضيع التّي لا يُمكننا الشكّ فيها. ) و التوقّف ( و هو قرين الموضوعيّة، و يتعلّق الأمر هنا بعدم إصدار أحكام مسبقة حول الموضوع المُستهدف بالشكّ، أي تعليق الحكم. ) و التثبّت (و هو فحص الموضوع المُستهدف بالشكّ من مختلف جوانبه ) و اليقين ( و هو المعرفة الثّابتة التّي لا يُمكن الشكّ فيها ). و ابن الهيثم ضبط منهجا استقرائيّا يرتكز على ثلاثة مراحل و هي: الاستقراء و النّقد و اليقين. و ابن خلدون ضبط منهجا يجب أن يتمثّله كلّ مُشتغل بمبحث التّاريخ و ينقسم إلى ثلاثة مراحل و هي القياس ( قياس " الغائب بالشاهد و الحاضر بالذاهب " ) و التّعليل (تعليل الاتّفاق و الاختلاف بين وقائع الحاضر و وقائع الماضي ) و التقنين ( القوانين و القواعد المُتحكّمة في وقائع التّاريخ )
4- المُنجز العلميّ
إنّ ضبط الخطوات السّابقة بكلّ دقّة و حرفيّة ( وسائل المعرفة / شروط الباحث / منهج البحث ) أدّى إلى مُنجز علميّ ثريّ قدّمته الحضارة العربيّة الإسلاميّة إلى الإنسانيّة. و من أمثلة ذلك:
+ الحسن بن الهيثم: يرجع فضل السّبق في وضع نظريّة الإبصار السليمة إلى عالم البصريّات المسلم ابن الهيثم التّي تطوّر على أساسها علم الضوء الحديث. فالنظريّة التّي كانت تُسيطر على فكر العلماء في الحضارات القديمة وظلّت سائدة حتى القرن الرابع الهجري أنّ الضوء ينساب من العين الى الجسم المرئي فتقع الرؤية. فصحّح ابن الهيثم هذه الفكرة وقرّر أنّ الإبصار إنّما يكون نتيجة سقوط أشعّة صادرة من الجسم المرئي إلى العين لتؤثر فيها.
+ أبو بكر الرّازي: يُعتبرُ رائدا في الجمع بين الطبّ و الكيمياء، و هو أوّل من وضع تشخيصا دقيقا عن التهاب الأعضاء و الرّئة و فرّق بين الجُدريّ و الحصبة. و كان أوّل من استعمل خيوط الجراحة من مصارين الحيوان.
+ أبو القاسم الزّهراوي: ألّف " التّصريف لمن عجز عن التأليف " و تُرجم هذا الكتاب إلى عديد اللّغات، و ظلّ مرجعا يُعتمد في الجراحة بإيطاليا و فرنسا. و يتضمّن فصولا دقيقة لعمليّات استخراج حَصَى المثانة بالشقّ و التّفتيت. و هو أوّل من أجرى عمليّة الغدّة الدّرقيّة.
+ ابن سينا: أوّل من استعمل التخدير أثناء الجراحة و لفت إلى وظيفة الشبكيّة في الإبصار. و قد قال بتنقّل عدوى الأوبئة عن طريق الماء و التّراب.
+ ابن النّفيس: اكتشف الدّورة الدمويّة التّي غيّرت نظريّات الطبّ و العلاج تغييرا جذريّا.
+ جابر بن حيّان: رائد الكيمياء الحديثة. خرج بالكيمياء من الشعوذة و السّحر إلى الدقّة العلميّة.
+ البتّاني: أنشأ مرصدا باسم مرصد البتّاني " و قد تأثّر به " كوبرنيك "
+ البيروني: يُعتبر واضع أصول الرّسم على سطح الكرة الأرضيّة.
+ أبو الفتح عبد الرّحمان الخازن: صنع الإسطرلابات. و اخترع ميزانا خاصّا لوزن الأجسام في الهواء و في الماء. و " ميزان الحكمة " هو الأوّل من نوعه في الهيدروستاتيكا.
+ الخوارزمي: يدينُ له العالم بعلم الحساب و علم الجبر. له الفضل في تطوّر علوم الرياضيّات و المحاسبة و الكمبيوتر.
+ ابن خلدون: جعل من مبحث التاريخ علما مُكتمل الأركان ( تقنين الوقائع التاريخيّة و إدخال مفهوم التنبّؤ إلى الظواهر التاريخيّة ) و أسّس علم العمران البشري